فصل: فَصْــل في أن الرسول بين جميع أصول الدين وفروعه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فَصْـل

إذا تبين هذا، فمن الناس من صار في طَرَفي نقيض، فحكى عن بعض السوفسطائية أنه جعل جميع العقائد هي المؤثرة في الاعتقادات، ولم يجعل للأشياء حقائق ثابتة في نفسها، يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى، بل جعل الحق في كل شيء ما اعتقده المعتقد، وجعل الحقائق تابعة للعقائد، وهذا القول على إطلاقه وعمومه لا يقوله عاقل سليم العقل، وإنما هو من جنس ما يحكى أن السوفسطائية أنكروا الحقائق ولم يثبتوا حقيقة ولا علمًا بحقيقة، وأن لهم مقدمًا يقال له‏:‏ سوفسطا كما يذكره فريق من أهل الكلام‏.‏

وزعم آخرون أن هذا القول لا يعرف أن عاقلًا قاله، ولا طائفة تسمى بهذا الاسم، وإنما هي كلمة معربة من اللغة اليونانية ومعناها‏:‏ الحكمة المموهة، يعنون الكلام الباطل الذي قد يشبه الحق، كما قد يتخيله الإنسان لفساد عقله أو مزاجه أو اشتباه الأمر عليه، وجعلوا /هذا نوعًا من الكلام والرأى يعرض للنفوس، لا أنه صنف من الآدميين‏.‏

وبكل حال، فمعلوم أن التخيلات الفاسدة كثيرًا ما تعرض لبنى آدم، بل هي كثيرة عليهم، وهم يجحدون الحق؛ إما عنادًا، وإما خطأ في أمور كثيرة وفي أحوال كثيرة، وإن كان الجاحد قد يقر بحق آخر، أو يقر بذلك الحق في وقت آخر، فالجهل والعناد الذي هو السفسطة هو فيهم خاص مقيد، لا أنه عام مطلق، قد يبتلى به بعضهم مطلقًا وإن لم يستمر به الأمر، وقد يبتلى به في شيء بعينه على سبيل الدوام، وأما ابتلاء الشخص المعين به، فقد يكون؛ إما مع فساد العقل المسقط للتكليف وهو الجنون،وإما مع صحة العقل المشروط في التكليف، فما أعلم شخصًا جاهلًا بكل شيء معاندًا لكل شيء حتى يكون سوفسطائيًا‏.‏

ومما يبين أن هذا لم يقع عند المتكلمة ـ أيضًا ـ أن كثيرًا من متكلمة أهل الحديث والسنة وغيرهم يقولون‏:‏ إن العقل المشروط في التكليف نوع من العلوم الضرورية؛ كالعلم بوجوب الواجبات، وجواز الجائزات، وامتناع الممتنعات‏.‏ واستدلوا على ذلك بأن العاقل لا يخلو من علم شيء من ذلك، وهذا قول القاضي أبي بكر، وابن البَاقِلانى، وأبي الطيب الطبري، والقاضي أبي يَعْلى، وابن عقيل، وغيرهم، فمن كان هذا / قوله لم يصح أن يحكى عن عاقل أنه أنكر العلوم جميعها إلا على سبيل العناد‏.‏ ومعلوم أن العناد لا يكون إلا لغرض، وليس لأحدٍ غرضٌ أن يعاند في كل شيء، ويجحده على سبيل الدوام‏.‏

ومن الناس بإزاء هؤلاء مَنْ قد يتوهم أنه لا تأثير للعقائد في المعتقدات، ولا تختلف الأحكام باختلاف العقائد، بل يتخيل أنه إذا اعتقد وجوب فعل، أو تحريمه كان من خرج عن اعتقاده مبطلًا مرتكبًا للمحرم، أو تاركًا للواجب، وأنه يستحق من الذم والعقاب ما يستحقه جنس من ترك الواجب، أو فعل المحرم، وإذا عورض بأنه متأول، أو مجتهد لم يلتفت إلى هذا، وقال‏:‏ هو ضال مخطئ مستحق للعقاب، وهذا ـ أيضًا ـ على إطلاقه وعمومه لا يعتقده صحيح العقل والدين، ما أعلم قائلًا به على الإطلاق والعموم كالطرف الأول، وإنما أعلم أقوامًا وطوائف يُبْتَلون ببعض ذلك ولوازمه في بعض الأشياء، فإن من غالب من يقول بعصمة الأنبياء والأئمة الاثنى عشر عن الخطأ في الأقوال والأعمال مَنْ قد يرى أنـه لو أخطأ الإمـام في فعلٍ لكان ذلك عيبًا وذمًا، وبين هـذين الطرفين المتباعـدين أطراف ـ أيضًا ـ نشأ عنها اختلاف الناس في تصويب المجتهدين وتخطئتهم في الأصول والفروع، كما سننبه عليه ـ إن شاء اللّه‏.‏

/ فصـل

والمتحقق أن الأحكام والأقوال والاعتقادات كما تقدم نوعان‏:‏ عَيْنيٌّ، وعملي، تابع للمعتقد، ومتبوع للمعتقد، فرع للمعتقد، وأصل له‏.‏

فأما الأول ـ وهو العينى التابع للمعتقد المتفرع عليه ـ فهذا لا تؤثر فيه الاعتقادات ولا يختلف باختلافها، فـإن حقائق الموجـودات ثابتـة في نفسها؛ سـواء اعتقدها الناس، أو لم يعتقدوها، وسواء اتفقت عقائدهم فيها، أو اختلفت، وإذا اختلف الناس فيها على قولين متناقضين لم يكن كل مجتهد مصيبًا، بمعنى أن قوله مطابق للمعتقد موافق له، لا يقول ذلك عاقل كما تقدم‏.‏ ومن حكى عن أحد من علماء المسلمين ـ سواء كان عبيد اللّه بن الحسن العَنْبَرِى، أو غيره ـ أنه قال‏:‏ كل مجتهد في الأصول مصيب، بمعنى أن القولين المتناقضين صادقان مطابقان فقد حكى عنه الباطل بحسب توهمه، وإذا رد هذا القول وأبطله فقد أحسن في رده وإبطاله، وإن كان هذا القول المردود لا قائل به‏.‏

ولكن المنازعات والمخالفات في هذا الجنس تشتمل على أقسام، وذلك أن التنازع؛ إما أن يكون في اللفظ فقط، أو في المعنى فقط، أو في كل منهما، أو في مجموعهما‏.‏

/ فإن كان في المعنى مع اللفظ أو بدونه، فلا يخلو؛ إما أن يتناقض المعنيان، أو يمكن الجمع بينهما، فإن كان النزاع في المعنيين المتناقضين فأحد القولين صواب والآخر خطأ، وأما بقية الأقسام فيمكن فيها أن يكون القولان صوابًا، ويمكن أن يكون الجميع خطأ، ويمكن أن يكون كل منهما ـ أو أحدهما ـ صوابًا من وجه، خطأ من وجه، وحيث كان القولان خطأ وقد لا يكون، وإذا لم يكن كفرًا فقد يكون فسوقًا وقد لا يكون‏.‏ فمن قال‏:‏ إن المتنازعين كل منهما صواب بمعنى الإصابة في بعض الأقسام المتقدمة، أو بمعنى أنه لا يعاقب على ذلك فهذا ممكن، وأما تصويب المتناقضين فمحال، فإنه كثيرًا ما يكون النزاع في المعنى نزاع تنوع، لا نزاع تضاد وتناقض، فيثبت أحدهما شيئًا، وينفي الآخر شيئًا آخر، ثم قد لا يشتركان في لفظ ما نفاه أحدهما وأثبته الآخر، وقد يشتركان في اللفظ، فيكون التناقض والاختلاف في اللفظ، وأما المعنى فلا يختلفان فيه ولا يتناقضان‏.‏

ثم قد يكونان متفقين عليه يقوله كل منهما، وقد يكون أحدهما قاله ـ أو يقوله ـ والآخر لا يتعرض له بإثبات ولا نفي، وقد يكون النزاع اللفظي مع اتحاد المعنى لا تنوعه، وكثير من تنازع الأمة في دينهم هو من هذا الباب في الأصول والفروع والقرآن والحديث، وغير ذلك‏.‏

مثال التنوع الذي ليس فيه نزاع لفظى أن يقول أحدهما‏:‏الصراط / المستقيم هو الإسلام‏.‏ ويقول الآخر‏:‏ هو السنة والجماعة‏.‏ ويقول الآخر‏:‏ هو القرآن‏.‏ ويقول الآخر‏:‏ هو طريق العبودية‏.‏ فإن هذا تنوع في الأسماء والصفات التي يبين بها الصراط المستقيم بمنزلة أسماء اللّه وأسماء رسوله وكتابه، وليس بينها تضاد، لا في اللفظ ولا في المعنى‏.‏

وكذلك إذا قال بعضهم في السابق والمقتصد والظالم أقوالًا، يذكر فيها كل قوم نوعًا من المسميين، ويكون الاسم متناولًا للجميع من غير منافاة‏.‏

ومثال التنوع الذي فيه نزاع لفظي لأجل اشتراك اللفظ ـ كما قيل‏:‏ أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء ـ تنازع قوم في أن محمدًا رأى ربه في الدنيا أو في الآخرة‏؟‏ فقال قوم‏:‏رآه في الدنيا؛ لأنه رآه قبل الموت‏.‏ وقال آخرون‏:‏ بل في الآخرة؛ لأنه رآه وهو فوق السموات ولم يره وهو في الأرض‏.‏ والتحقيق أن لفظ الآخرة يراد به الحياة الدنيا والحياة الآخرة، ويراد به الدار الدنيا والدار الآخرة، ومحمد رأى ربه في الحياة الدنيا في الدار الآخرة‏.‏

وكذلك كثير ممن يتنازعون في أن اللّه في السماء، أو ليس في السماء‏.‏ فالمثبتة تطلق القول بأن اللّه في السماء، كما جاءت به النصوص، ودلت عليه‏.‏ بمعنى أنه فوق السموات على عرشه بائن من خلقه‏.‏ وآخرون ينفون / القول بأن اللّه في السماء، ومقصودهم أن السماء لا تحويه ولا تحصره ولا تحمله ولا تقله، ولا ريب أن هذا المعنى صحيح ـ أيضًا‏.‏ فإن اللّه لا تحصره مخلوقاته، بل وسع كرسيه السموات والأرض، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فَلاة، وكذلك ليس هو مفتقرًا إلى غيره، محتاجًا إليه، بل هو الغنى عن خلقه، الحي القيوم الصمد، فليس بين المعنيين تضاد، ولكن هؤلاء أخطؤوا في نفي اللفظ الذي جاء به الكتاب والسنة، وفي توهم أن إطلاقه دَالٌّ على معنى فاسد‏.‏

وقد يعذر بعضهم إذا رأى من أطلق هذا اللفظ، وأراد به أن السماء تقله أو تظله، وإذا أخطأ من عنى هذا المعنى فقد أصاب، وأما الأول فقد أصاب في اللفظ لإطلاقه ما جاء به النص، وفي المعنى الذي تقدم؛ لأنه المعنى الحق الذي دل عليه النص، لكن قد يخطئ بعضهم في تكفير من يطلق اللفظ الثاني إذا كان مقصوده المعنى الصحيح، فإن من عنى المعنى الصحيح لم يكفر بإطلاق لفظ، وإن كان مسيئًا، أو فاعلًا أمرًا محرمًا‏.‏ وأما من فسر قوله‏:‏ إنه ليس في السماء، بمعنى أنه ليس فوق العرش، وإنما فوق السموات عدم محض، فهؤلاء هم الجهمية الضلال، المخالفون لإجماع الأنبياء، ولفطرة العقلاء‏.‏

/ فصـل

ونحن نذكر من ذلك أصولًا‏:‏

أحدها‏:‏ تأثير الاعتقادات في رفع العذاب والحدود، فنقول‏:‏ إن الأحكام الشرعية التي نصبت عليها أدلة قطعية معلومة، مثل الكتاب والسنة المتواترة والإجماع الظاهر؛ كوجوب الصلاة والزكاة والحج والصيام وتحريم الزنا والخمر والربا‏.‏ إذا بلغت هذه الأدلة للمكلف بلاغًا يمكنه من اتباعها فخالفها تفريطًا في جنب اللّه وتعديًا لحدود اللّه فلا ريب أنه مخطئ آثم، وأن هذا الفعل سبب لعقوبة اللّه في الدنيا والآخرة، فإن اللّه أقام حجته على خلقه بالرسل الذين بعثهم إليهم مبشرين ومنذرين ‏{‏ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏، قال ـ تعالى ـ عن أهل النار‏:‏‏{‏ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 8، 9‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 71‏]‏‏.‏

وأما إذا كان في الفعل والحادثة والمسألة العملية نص لا يتمكن المكلف من معرفته ومعرفة دلالته، مثل أن يكون الحديث النبوي الوارد فيها عند شخص لم يعلم به المجتهد ولم يشعر بما يدله عليه، أو تكون دلالته خفية لا يقدر المجتهد على فهمها، أو لم يكن فيها نص بحال، فهذا مَوْرِد نزاع؛ فذهب فريق من أهل الكلام، مثل أبي على وأبي هاشم والقاضي أبي بكر والغزالي إلى قول مُبْتَدَع يشبه في المجتهدات قول الزنادقة الإباحية في المنصوصات، وهو أنه ليس لهذه الحادثة حكم عند اللّه في نفس الأمر، وإنما حكمه في حق كل مكلف يتبع اجتهاده واعتقاده، فمن اعتقد وجوب الفعل فهو واجب عليه، ومن اعتقد تحريمه فهو حرام عليه، وبنوا ذلك على مقدمتين‏:‏

إحداهما‏:‏ أن الحكم إنما يكون بالخطاب، فما لا خطاب فيه لا حكم للّه فيه، فإذا لم يكن للعقل فيه حكم؛ إما لعدم الحكم العقلى مطلقًا، أو في هذه الصورة علم أنه لا حكم فيه يكون من أصابه مصيبًا ومن أخطأه مخطئًا‏.‏

الثاني‏:‏ أنه قد علم أن من اعتقد وجوب شيء فعليه فعله، ومن / اعتقد تحريمه فعليه اجتنابه، فالحكم فيه يتبع الاعتقاد‏.‏ قالوا‏:‏ والأحكام الشرعية تختلف باختلاف أحوال المكلفين في اجتهاداتهم وغير اجتهاداتهم، بدليل اتفاق الفقهاء وأهل السنة على أن الاجتهاد والاعتقاد يؤثر في رفع الإثم والعقاب كما جاءت به النصوص، وأن الوجوب والتحريم يختلف بالإقامة والسفر والطهارة والحيض والعجز والقدرة وغير ذلك، فيجوز أن تختلف الأحكام باختلاف الاعتقادات، ويكون الحكم في حق المجتهد عند عدم النص ما اعتقده‏.‏ هذا ملخص قولهم‏.‏ وأما السلف والفقهاء والصوفية والعامة وجمهور المتكلمين فعلى إنكار هذا القول، وأنه مخالف للكـتاب والسـنة وإجماع السـلف، بـل هـو مخالف للعقـل الصـريح، حتى قـال أبو إسحاق الإسْفِرَائيني وغيره‏:‏ هذا المذهب أوله سَفْسَطة وآخره زندقة، يعني‏:‏ أن السفسطة جعل الحقائق تتبع العقائد كما قدمناه‏.‏ فمن قال‏:‏ إن الإيجاب والتحريم يتبع الاعتقادات فقد سفسط في الأحكام العملية، وإن لم يكن مسفسطًا في الأحكام العينية، وقد قدمنا أنه لم تَجْرِ العادة بأن عاقلا يسفسط في كل شيء؛ لا خطأ ولا عمدًا، لا ضلالًا ولا عنادًا، لا جهلًا ولا تجاهلًا، وأما كون آخره زندقة؛ فلأنه يرفع الأمر والنهي والإيجاب والتحريم والوعيد في هذه الأحكام، ويبقى الإنسان إن شاء أن يوجب، وإن شاء / أن يحرم، وتستوي الاعتقادات والأفعال، وهذا كفر وزندقة‏.‏

وجماع الكلام على هؤلاء في مقامين‏:‏

أحدهما‏:‏ امتناع هذا القول في نفسه واستحالته، وذلك معلوم بالعقل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لو كان جائزًا في العقل، لكن لم يرد به الشرع، بل هو مخالف له، وتعرف مخالفته للنص والإجماع‏.‏

أما الأول فمن وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه قد تقدم أن كل علم واعتقاد وحكم لابد له من معلوم معتقد، محكوم به، يكون الاعتقاد مطابقًا له موافقًا؛ سواء كان للاعتقاد تأثير في وجوده، أو لم يكن؛ فإن الاعتقادات العملية المؤثرة في المعتقد مثل‏:‏ اعتقاد أن أكل هذا الخبز يشبع، واعتقاد أن أكل هذا السم يقتل، وإن كان هذا الاعتقاد يؤثر في وجود الأكل مثلًا فلابد له من معتقد ثابت بدونه، وهو كون أكل ذلك الخبز موصوفًا بتلك الصفة والأكل، فإن كان معدومًا قبل وجوده فإن محله وهو الخبز والأكل موجودان، فإن لم يكن الخبز متصفًا بالإشباع إذا أكل، والأكل متصفًا بأنه يشبع إذا أكله لم يكن الاعتقاد صحيحًا، بل / فاسدًا‏.‏ كما لو اعتقد في شيء أنه رغيف فأكله إذا هو جَصٌّ أو جبصين، فإن اعتقاده، وإن أقدم به على الأكل، فإنه لا يشبعه لفساد الاعتقاد، وهكذا من اعتقد في شيء أنه ينفعه أو يضره فإن الاعتقاد يدعوه إلى الفعل أو الترك، ويبعثه على ذلك، فإن كان مطابقًا حصلت المنفعة، واندفعت المضرة إذا انتفت الموانع، وإلا فمجرد الانتفاع بالفعل أو الضرر به لا يوجب حصول المنفعة والمضرة، وإنما هذا قول بعض جهال الكفار‏:‏ لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه، فيجعلون الانتفاع بالشيء تبعًا لظن المنفعة فيه‏.‏

وقد اعتقد المشركون الانتفاع بالأصنام التي قال اللّه فيها‏:‏ ‏{‏ يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 13‏]‏، فإذا اعتقد المعتقد أن هذا الفعل مأمور به أمر استحباب يثيب اللّه عليه ثواب الفعل المستحب، أو أمر إيجاب يعاقب من تركه عقوبة العاصي، أو اعتقد أن اللّه نهي عنه كذلك، فهو معتقد؛ إما صفة في ربه فقط من الأمر والنهي وهي صفة إضافية للفعل، كما يقوله طائفة من المتكلمة والفقهاء من أصحابنا وغيرهم، وإما صفة في الفعل فقط من الحسن والقبح والأمر والنهي كاشفة لذلك؛ كما يقوله طائفة من المتكلمة والفقهاء من أصحابنا وغيرهم، وإما ثبوت الصفتين جميعًا للأمر والمأمور به؛ كما عليه جمهور الفقهاء‏.‏ وهو إنما يعتقد وجود تلك الصفة التي هي الحكم الشرعي لاعتقاده أنها ثابتة في /نفسها موجودة بدون اعتقاده، لا أنه يطلب باعتقاده أن يثبت للأمر والفعل صفة لم تكن له قبل ذلك؛ إذ ليس لأحد من المجتهدين غرض في أن يثبت للأفعال أحكامًا باعتقاده، ولا أن يشرع دينًا لم يأذن به اللّه‏.‏ وإنما مطلوبه أن يعتقد حكم اللّه ودينه، ولا له مقصود أن يجيء إلى الأفعال المتساوية في ذواتها وفي أمر اللّه، فيعتقد في أحدها الوجوب على نفسه، وفي الآخر التحريم من غير سبب تختص به الأفعال‏.‏

فهذا موضع ينبغي تدبره‏.‏ فإن المؤمن الطالب لحكم اللّه إذا علم أن تلك الأفعال عند اللّه سواء، لم يميز بعضها عن بعض بأمر ولا نهي، وهي في أنفسها سواء، لم يميز بعضها عن بعض بحسن ولا سوء ولا مصلحة ولا مفسدة‏.‏ فإن هذا الاعتقاد منه موجب لاستوائها وتماثلها، فاعتقاده بعد هذا أن هذا واجب يذم تاركه، وهذا حرام يعاقب فاعله تناقض في العقل وسفسطة، وكفر في الدين وزندقة‏.‏

أما الأول‏:‏ فلأن اعتقاد التساوي والتماثل ينافي اعتقاد الرجحان والتفضيل، فضلًا عن وجوب هذا وتحريم هذا، فكيف يجمع العاقل بين الاعتقادين المتناقضين‏؟‏ إلا أن يكون أَخْرَق كافرًا، فيقول‏:‏ أنا أوجب هذا وأحرم هذا، بلا أمر من اللّه، ولا مرجح لأحدهما من جهة العقل، فإذا فعل هذا كان شارعًًا من الدين لما لم يأذن به اللّه، وهو مع هذا دين معلوم الفساد بالعقل، حيث جعل الأفعال المستوية / بعضها واجب وبعضها محرم، بلا سبب يوجب التخصيص، إلا محض التحكم الذي لا يفعله حيوان أصلًا، لا عاقل ولا مجنون، إذ لو فرض اختصاص أحد الفعلين لشهوة أو لذة أمكن أن يقال‏:‏ تلك جهة توجب الترجيح، وهي جهة حُسْن عند من يقول بالتحسين العقلى فيجب لذلك، والغرض انتفاء ذلك جميعه، وإذا انتفي ذلك كله علم أن اعتقاد حسن الفعل وقبحه ووجوبه وتحريمه يتبع أمرًا ثابتًا في نفسه، يكون مطابقًا له أو غير مطابق‏.‏ وإذا كان كذلك، فالاعتقاد المطابق صواب، والاعتقاد المخالف ليس بصواب، لا أن الحكم يتبع الاعتقاد من كل وجه‏.‏

الثاني‏:‏ أن الطالب المستدل بالدليل ليستبين له الأحكام هو يطلب العلم بمدلول الدليل، فإن لم يكن للدليل مدلول وإنما مدلول الدليل يحصل عقب التأمل لم يكن مطلوبه العلم بالمدلول، وإنما مطلوبه وجود المدلول، وليس هذا شأن الأدلة التي تبين المدلولات، وإنما هو شأن الأسباب والعلل توجد المسببات، وفرق كثير بين الدليل المقتضي للعلم القائم بالقلب، وبين العلم المقتضي للوجود القائم في الخارج، فإن مقتضى الأول الاعتقاد الذهني، ومقتضى الثاني الوجود الخارجي، وأحد النوعين مباين للآخر‏.‏

/ فصـل

وأما الأحكام والاعتقادات والأقوال العملية التي يتبعها المحكوم، فهي الأمر والنهي والتحسين والتقبيح واعتقاد الوجوب والتحريم، ويسميها كثير من المتفقهة والمتكلمة‏:‏ الأحكام الشرعية، وتسمى الفروع والفقه، ونحو ذلك‏.‏ وهذه تكون في جميع الملل والأديان، وتكون في الأمور الدنيوية من السياسات والصناعات والمعاملات، وغير ذلك، وهي التي قصدنا الكلام عليها في هذه القاعدة، حيث قلنا‏:‏ إن الاعتقادات قد تؤثر في الأحكام الشرعية، فهذه ـ أيضًا ـ الناس فيها طرفان ووسط‏:‏

الطرف الأول‏:‏ طرف الزنادقة الإباحية الكافرة بالشرائع والوعيد والعقاب في الدار الآخرة، الذين يرون أن هذه الأحكام تتبع الاعتقاد مطلقًا والاعتقاد هو المؤثر فيها، فلا يكون الشيء واجبًا إلا عند من اعتقد تحريمه، ويرون أن الوعيد الذي يلحق هؤلاء هو عذاب نفوسهم بما اعتقدوه من الأمر والنهي والإيجاب والتحريم، وما اعتقدوه من أنهم إذا فعلوا المحرمات، وتركوا الواجبات عذبوا وعوقبوا، فيبقى في / نفوسهم خوف وتألم وتوهم للعذاب وتخيل له، فيزعمون أن هذا الألم الناشئ عن هذا الاعتقاد والتخيل هو عقابهم وعذابهم وذاك ناشئ عما اعتقدوه؛ كمن اعتقد أن هنا أسدًا أو لصًا أو قاطع طريق من غير أن يكون له وجود، فيتألم ويتضرر بخوفه من هذا المحذور الذي اعتقده‏.‏ فاجتمع اعتقاد غير مطابق، ومعتقد يؤلم وجوده، فتألمت النفس بهذا الاعتقاد والتخيل‏.‏ وقد يقول حُذَّاق هؤلاء من الإسماعيلية والقرامطة وقوم يتصوفون أو يتكلمون ـ وهم غالية المرجئة ـ‏:‏ إن الوعيد الذي جاءت به الكتب الإلهية إنما هو تخويف للناس لتنزجر عما نهيت عنه من غير أن يكون له حقيقة، بمنزلة ما يخوف العقلاء الصبيان والبُلْهَ بما لا حقيقة له لتأديبهم، وبمنزلة مخادعة المحارب لعدوه إذا أوهمه أمرًا يخافه لينزجر عنه، أو ليتمكن هو من عدوه، وغير ذلك‏.‏

وهؤلاء هم الكفار برسل اللّه وكتبه واليوم الآخر، المنكرون لأمره ونهيه ووعده ووعيده، وما ضربه اللّه في القرآن من الأمثال وقصه من أخبار الأمم المكذبة للرسل، فهو متناول لهؤلاء، ويكفي ما عاقب اللّه به أهل الكفر والفسوق والعصيان في الدنيا من أنواع المثُلات؛ فإنه أمر محسوس مشاهد لا يمكن دفعه، وما من أحد إلا قد سمع من ذلك أنواعا، أو رأى بعضه‏.‏ وأهل الأرض متفقون على أن الصادق البار العادل ليس حاله كحال / الكاذب الفاجر الظالم، بل يرون من ثواب الحسنات وعقوبة السيئات ما فيه عِبْرة ومُزْدَجَر، كما كانوا عليه في الجاهلية قبل الرسل، فلما جاءت الرسالة بوعيد الآخرة بين ذلك ما كان الناس عنه غافلين‏.‏

الطرف الثاني‏:‏ طرف الغالية المتشددين، الذين لا يرون للاعتقاد أثرًا في الأفعال، بل يقول غاليتهم ـ كقوم من متكلمة المعتزلة ـ‏:‏ إن للّه حكمًا في كل فعل، مَنْ أخطأه كان آثمًا معاقبًا، فيرون المسلم العالم المجتهد متى خفي عليه دليل شرعي ـ وقد اجتهد واستفرغ وسعه في طلب حكم اللّه ـ أنه آثم معاقب على خطئه، فهذا قولهم في الاجتهاد والاعتقاد، ثم إذا ترك واجبًا، أو فعل محرمًا قالوا بنفوذ الوعيد فيه، فيوجبون تخليد فساق أهل الملة في النار، وهذا قول جمهور المعتزلة والخوارج، ولكن الخوارج يكفِّرون بالذنب الكبير أو الصغير عند بعضهم‏.‏ وأما المعتزلة فيقولون‏:‏ هو في منزلة بين منزلتين، لا مؤمن ولا كافر‏.‏

وأما الأمة الوسط، فعلى أن الاعتقاد قد يؤثر في الأحكام، وقد لا يؤثر بحسب الأدلة والأسباب، كما أن ذلك هو الواقع في الأمور الطبيعية، فالأغذية والأدوية قد يختلف حكمها بحسب اعتقاد الطبيب والمتداوى وقد لا يختلف، وقد يعتقد الإنسان في الشيء صفة نافعة أو ضارة فينتفع به أو يتضرر، وإن لم يكن كذلك، وقد يعتقد ذلك / فلا يؤثر، فلو اعتقد في الخبز واللحم أنه غير مشبع لم يؤثر ذلك، بل هو مشبع ولو اعتقد ضد ذلك‏.‏

 فصـل

مذاهب الأئمة تؤخذ من أقوالهم‏.‏ وأما أفعالهم فقد اختلف أصحابنا في فعل الإمام أحمد، هل يؤخذ منه مذهبه‏؟‏ على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لا؛ لجواز الذنب عليه، أو أن يعمل بخلاف معتقده، أو يكون عمله سهوًا أو عادة أو تقليدًا، أو لسبب ما غير الاعتقاد الذي يفتى به، فإن عمل المرء بعلمه في كل حادثة، وألا يعمل إلا بعلم يفتى به في كل حادثـة يفتقـر إلى أن يكـون لـه في ذلك رأى، وأن يذكره، وأن يكون مريدًا له من غير صارف؛ إذ الفعل مع القدرة يقف على الداعى، والداعى هو الشعور وميل القلب‏.‏

والثاني‏:‏ بل يؤخذ منه مذهبه؛ لما عرف من تقوى أبي عبد الله وورعه وزهده، فإنه كان من أبعد الناس عن تعمد الذنب، وإن لم نَدَّعِ فيه العصمة، لكن الظاهر والغالب أن عمله موافق لعلمه، فيكون الظاهر فيما عمله أنه مذهبه‏.‏ وهكذا القول فيمن يغلب عليه التقوى /والورع، وبعضهم أشد من بعض، فكل ما كان الرجل أتقى لله وأخشى له كان ذلك أقوى فيه‏.‏ وأبو عبد الله من أتقى الأمة وأعظمهم زهدًا وورعًا، بل هو في ذلك سابق ومقدم، كما تشهد به سيرته، وسيرة غيره المعروفة عند الخاص والعام‏.‏

وكذلك أصحاب الشافعي لما رأوا نصه أنه لا يجوز بيع الباقلاء الأخضر، ثم إنه اشتراه في مرضه، فاختلف أصحابه، هل يخرج له في ذلك مذهب‏؟‏ على وجهين، وقد ذكروا مثل هذا في إقامة جمعتين في مكان واحد لما دخل بغداد، فإذا قلنا‏:‏ هو مذهب الإمام أحمد، فهل يقال فيما فعله‏:‏ إنه كان أفضل عنده من غيره‏؟‏ هذا أضعف من الأول، فإن فعله يدل على جوازه فيما ليس من تعبداته، وإذا كان متعبدًا به دل على أنه مستحب عنده أو واجب‏.‏ أما كونه أفضل من غيره عنده فيفتقر إلى دليل منفصل، وكثيرًا ما يعدل الرجل عن الأفضل إلى الفاضل؛ لما في الأفضل من الموانع، وما يفتقر إليه من الشروط، أو لعدم الباعث، وإذا كان فعله جائزًا، أو مستحبًا، أو أفضل فإنه لا عموم له في جميع الصور، بل لا يتعدى حكمه إلا إلى ما هو مثله، فإن هذا شأن جميع الأفعال لا عموم لها، حتى فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا عموم له‏.‏

ثم يقال‏:‏ فعل الأئمة وتركهم ينقسم كما تنقسم أفعال النبي/ صلى الله عليه وسلم؛ تارة يفعله على وجه العبادة والتدين، فيدل على استحبابه عنده، وأما رجحانه ففيه نظر‏.‏ وأما على غير وجه التعبد ففي دلالته الوجهان، فعلى هذا ما يذكر عن الأئمة من أنواع التعبدات والتزهدات والتورعات يقف على مقدمات‏:‏

إحداها‏:‏ هل يعتقد حسنها بحيث يقوله ويفتى به، أو فعله بلا اعتقاد لذلك، بل تأسيًا بغيره أو ناسيًا‏؟‏ على الوجهين، كالوجهين في المباح‏.‏

والثانية‏:‏ هل فيه إرادة لها توافق اعتقاده‏؟‏ فكثيرًا ما يكون طبع الرجل يخالف اعتقاده‏.‏

والثالثة‏:‏ هل يرى ذلك أفضل من غيره، أو يفعل المفضول لأغراض أخرى مباحة‏؟‏ والأول أرجح‏.‏

والرابعة‏:‏ أن ذلك الرجحان هل هو مطلق، أو في بعض الأحوال‏؟‏ والله أعلم‏.‏

/بسم الله الرحمن الرحيم

 قَالَ الشيخ الإمام العَالم تقي الدين أوحد المجتهدين أحمد بن تيمية ـ قدس الله روحه ونور ضريحه‏:‏

الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا‏.‏

 فَصْــل

في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ جميع الدين؛ أصوله وفروعه، باطنه وظاهره، علمه وعمله، فإن هذا الأصل هو أصل/ أصول العلم والإيمان، وكل من كان أعظم اعتصامًا بهذا الأصل كان أولى بالحق علمًا وعملًا، ومن كان أبعد عن الحق علمًا وعملًا‏:‏ كالقرامطة والمتفلسفة الذين يظنون أن الرسل ما كانوا يعلمون حقائق العلوم الإلهية والكلية، وإنما يعرف ذلك بزعمهم من يعرفه من المتفلسفة، ويقولون‏:‏ خاصة النبوة هي التخييل، ويجعلون النبوة أفضل من غيرها عند الجمهور لا عند أهل المعرفة، كما يقول هذا ونحوه الفارأبي وأمثاله، مثل مُبَشِّر بن فَاتِك وأمثاله من الإسماعيلية‏.‏

وآخرون يعترفون بأن الرسول علم الحقائق، لكن يقولون‏:‏ لم يبينها، بل خاطب الجمهور بالتخييل، فيجعلون التخييل في خطابه لا في علمه، كما يقول ذلك ابن سينا وأمثاله‏.‏

وآخرون يعترفون بأن الرسل علموا الحق وبينوه، لكن يقولون‏:‏ لا يمكن معرفته من كلامهم، بل يعرف بطريق آخر؛ إما المعقول عند طائفة، وإما المكاشفة عند طائفة، إما قياس فلسفي، وإما خيال صوفي‏.‏ ثم بعد ذلك ينظر في كلام الرسول فما وافق ذلك قبل، وما خالفه؛ إما أن يفوض، وإما أن يؤول‏.‏ وهذه طريقة كثير من أهل الكلام الجهمية والمعتزلة، وهي طريقة خيار الباطنية والفلاسفة الذين يعظمون الرسول وينزهونه عن الجهل والكذب، لكن يدخلون في التأويل‏.‏

/وأبو حامد الغزالي لما ذكر في كتابه طرق الناس في التأويل، وأن الفلاسفة زادوا فيه حتى انحلوا، وأن الحق بين جمود الحنابلة، وبين انحلال الفلاسفة، وأن ذلك لا يعرف من جهة السمع، بل تعرف الحق بنور يقذف في قلبك، ثم ينظر في السمع، فما وافق ذلك قبلته وإلا فلا‏.‏ وكان مقصوده بالفلاسفة المتأولين خيار الفلاسفة، وهم الذين يعظمون الرسول عن أن يكذب للمصلحة، ولكن هؤلاء وقعوا في نظير ما فروا منه، نسبوه إلى التلبيس والتعمية وإضلال الخلق، بل إلى أن يظهر الباطل ويكتم الحق‏.‏

وابن سينا وأمثاله، لما عرفوا أن كلام الرسول لا يحتمل هذه التأويلات الفلسفية، بل قد عرفوا أنه أراد مفهوم الخطاب ـ سلك مسلك التخييل، وقال‏:‏ إنه خاطب الجمهور بما يخيل إليهم، ومع علمه أن الحق في نفس الأمر ليس كذلك‏.‏ فهؤلاء يقولون‏:‏ إن الرسل كذبوا للمصلحة‏.‏

وهذا طريق ابن رشد الحفيد ‏[‏هو محمد بن أبي القاسم أحمد ابن شيخ المالكية أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي، ولد سنة عشرين وخمسمائة‏.‏ أخذ العلم عن أبي مروان بن مسرة وجماعة، وبرع في الفقه، وأخذ الطب عن أبي مروان بن حزبول، أثنى عليه علماء عصره، ومن أشهر تصانيفه‏:‏ ‏[‏بداية المجتهد‏]‏‏.‏ مات محبوسًا بمراكش سنة خمس وتسعين وخمسمائة‏]‏ وأمثاله من الباطنية، فالذين عظموا الرسل من هؤلاء عن الكذب نسبوهم إلى التلبيس والإضلال، والذين أقروا بأنهم بينوا الحق قالوا‏:‏ إنهم كذبوا للمصلحة‏.‏

وأما أهل العلم والإيمان فمتفقون على أن الرسل لم يقولوا إلا / الحق، وأنهم بينوه، مع علمهم بأنهم أعلم الخلق بالحق، فهم الصادقون المصدوقون علموا الحق وبينوه، فمن قال‏:‏ إنهم كذبوا للمصلحة فهو من إخوان المكذبين للرسل، لكن هذا لما رأى ما عملوا من الخير والعدل في العالم لم يمكنه أن يقول‏:‏ كذبوا لطلب العلو والفساد، بل قال‏:‏ كذبوا لمصلحة الخلق‏.‏ كما يحكى عن ابن التَّومَرْت وأمثاله‏.‏

ولهذا كان هؤلاء لا يفرقون بين النبي والساحر إلا من جهة حُسْنِ القصد، فإن النبي يقصد الخير والساحر يقصد الشر، وإلا فلكل منهما خوارق هي عندهم قوى نفسانية، وكلاهما عندهم يكذب، لكن الساحر يكذب للعلو والفساد والنبي عندهم يكذب للمصلحة؛ إذ لم يمكنه إقامة العدل فيهم إلا بنوع من الكذب‏.‏

والذين علموا أن النبوة تناقض الكذب على الله، وأن النبي لا يكون إلا صادقًا من هؤلاء قالوا‏:‏ إنهم لم يبينوا الحق، ولو أنهم قالوا‏:‏ سكتوا عن بيانه لكان أقل إلحادًا، لكن قالوا‏:‏ إنهم أخبروا بما يظهر منه للناس الباطل، ولم يبينوا لهم الحق، فعندهم أنهم جمعوا بين شيئين‏:‏ بين كتمان حق لم يبينوه، وبين إظهار ما يدل على الباطل، وإن كانوا لم يقصدوا الباطل، فجعلوا كلامهم من جنس المعاريض التي يعني بها المتكلم معنى صحيحًا، لكن لا يفهم المستمع منها إلا الباطل‏.‏ وإذا قالوا‏:‏ قصدوا التعريض كان أقل إلحادًا ممن قال‏:‏ إنهم قصدوا الكذب‏.‏

/ والتعريض نوع من الكذب؛ إذ كان كذبًا في الإفهام؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله‏)‏، وهي معاريض، كقوله عن سارة‏:‏ إنها أختي؛ إذ كان ليس هناك مؤمن إلا هو وهي‏.‏

وهؤلاء يقولون‏:‏ إن كلام إبراهيم وعامة الأنبياء مما أخبروا به عن الغيب كذب من المعاريض‏!‏‏!‏

وأما جمهور المتكلمين فلا يقولون بهذا، بل يقولون‏:‏ قصدوا البيان دون التعريض، لكن مع هذا يقول الجهمية ونحوهم‏:‏ إن بيان الحق ليس في خطابهم، بل إنما في خطابهم ما يدل على الباطل‏.‏ والمتكلمون من الجهمية والمعتزلة والأشعرية، ونحوهم ـ ممن سلك في إثبات الصانع طريق الإعراض ـ يقولون‏:‏ إن الصحابة لم يبينوا أصول الدين، بل ولا الرسول؛ إما لشغلهم بالجهاد، أو لغير ذلك‏.‏

وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع، وبينا أن أصول الدين الحق الذي أنزل الله به كتابه، وأرسل به رسوله، وهي الأدلة والبراهين والآيات الدالة على ذلك ـ قد بينها الرسول أحسن بيان، وأنه دل الناس وهداهم إلى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية التي بها يعلمون المطالب الإلهية، وبها يعلمون إثبات ربوبية الله ووحدانيته /وصفاته وصدق رسوله والمعاد، وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته بالأدلة العقلية، بل وما يمكن بيانه بالأدلة العقلية، وإن كان لا يحتاج إليها؛ فإن كثيرًا من الأمور تعرف بالخبر الصادق، ومع هذا فالرسول بين الأدلة العقلية الدالة عليها، فجمع بين الطرفين‏:‏ السمعي والعقلي‏.‏

وبينا أن دلالة الكتاب والسنة على أصول الدين ليست بمجرد الخبر، كما تظنه طائفة من الغالطين من أهل الكلام والحديث والفقهاء والصوفية وغيرهم، بل الكتاب والسنة دلا الخلق وَهدَياهم إلى الآيات والبراهين والأدلة المبينة لأصول الدين، وهؤلاء الغالطون الذين أعرضوا عما في القرآن من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية صاروا إذا صنفوا في أصول الدين أحزابًا‏:‏

حزب‏:‏ يقدمون في كتبهم الكلام في النظر والدليل والعلم، وأن النظر يوجب العلم، وأنه واجب، ويتكلمون في جنس النظر وجنس الدليل وجنس العلم بكلام قد اختلط فيه الحق بالباطل، ثم إذا صاروا إلى ما هو الأصل والدليل للذين استدلوا بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام، وهو دليل مبتدع في الشرع وباطل في العقل‏.‏

والحزب الثاني‏:‏ عرفوا أن هذا الكلام مبتدع، وهو مستلزم مخالفة الكتاب والسنة، وعنه ينشأ القول بأن القرآن مخلوق، وأن / الله لا يرَي في الآخرة وليس فوق العرش، ونحو ذلك من بدع الجهمية، فصنفوا كتبًا قدموا فيها ما يدل على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة من القرآن والحديث وكلام السلف، وذكروا أشياء صحيحة لكنهم قد يخلطون الآثار صحيحها بضعيفها، وقد يستدلون بما لا يدل على المطلوب‏.‏

وأيضًا، فهم إنما يستدلون بالقرآن من جهة أخباره لا من جهة دلالته، فلا يذكرون ما فيه من الأدلة على إثبات الربوبية والوحدانية والنبوة والمعاد، وأنه قد بين الأدلة العقلية الدالة على ذلك؛ ولهذا سموا كتبهم أصول السنة والشريعة، ونحو ذلك، وجعلوا الإيمان بالرسول قد استقر، فلا يحتاج أن يبين الأدلة الدالة عليه، فذمهم أولئك ونسبوهم إلى الجهل؛ إذ لم يذكروا الأصول الدالة على صدق الرسول، وهؤلاء ينسبون أولئك إلى البدعة، بل إلى الكفر؛ لكونهم أصلوا أصولاً تخالف ما قاله الرسول‏.‏

والطائفتان يلحقهما الملام؛ لكونهمـا أعرضتا عن الأصــول التي بينها الله بكتابه، فإنهـــا أصول الدين وأدلته وآياته، فلما أعرض عنها الطائفتــان وقع بينها العداوة؛ كمــا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 14‏]‏‏.‏

/ وحزب ثالث‏:‏ قد عرف تفريط هؤلاء، وتعدِّي أولئك وبدعتهم، فذمهم وذم طالب العلم الذكي الذي اشتاقت نفسه إلى معرفة الأدلة، والخروج عن التقليد إذا سلك طريقهم، وقال‏:‏ إن طريقهم ضارة، وإن السلف لم يسلكوها، ونحو ذلك مما يقتضي ذمها، وهو كلام صحيح، لكنه إنما يدل على أمر مجمل لا تتبين دلالته على المطلوب، بل قد يعتقد طريق المتكلمين مع قوله‏:‏ إنه بدعة، ولا يفتح أبواب الأدلة التي ذكرها الله في القرآن التي تبين أن ما جاء به الرسول حق، ويخرج الذكي بمعرفتها عن التقليد وعن الضلال والبدعة والجهل‏.‏

فهؤلاء أضل بفرقهم؛ لأنهم لم يتدبروا القرآن، وأعرضوا عن آيات الله التي بينها بكتابه، كما يعرض من يعرض عن آيات الله المخلوقة، قال الله تعالى‏:‏‏{‏وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 105‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 101‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 7، 8‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 29‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 58‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ‏}‏ الآية ‏[‏النحل‏:‏ 43، 44‏]‏، وقال/ تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 25‏]‏، ومثل هذا كثير، لبسطه مواضع أُخر‏.‏

والمقصود أن هؤلاء الغالطين الذين أعرضوا عما في القرآن من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية لا يذكرون النظر والدليل والعلم الذي جاء به الرسول، والقرآن مملوء من ذلك‏.‏ والمتكلمون يعترفون بأن في القرآن من الأدلة العقلية الدالة على أصول الدين ما فيه، لكنهم يسلكون طرقًا أخر كطريق الأعراض‏.‏

ومنهم من يظن أن هذه طريق إبراهيم الخليل، وهو غالط‏.‏

والمتفلسفة يقولون‏:‏ القرآن جاء بالطريق الخطابية والمقدمات الإقناعية التي تقنع الجمهور، ويقولون‏:‏ إن المتكلمين جاؤوا بالطرق الجدلية، ويدعون أنهم هم أهل البرهان إلىقيني‏.‏ وهم أبعد عن البرهان في الإلهيات من المتكلمين، والمتكلمون أعلم منهم بالعلميات البرهانية في الإلهيات والكليات، ولكن للمتفلسفة في الطبيعيات خوض وتفصيل تميزوا به، بخلاف الإلهيات فإنهم من أجهل الناس بها، وأبعدهم عن معرفة الحق فيها، وكلام أرسطو معلمهم فيها قليل كثير الخطأ، فهو لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقي ولا سمين فينتقي‏.‏ وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

/ والقرآن جاء بالبينات والهدي؛ بالآيات البينات وهي الدلائل إلىقينيات، وقد قال الله تعالى لرسوله‏:‏ ‏{‏ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏125‏]‏، والمتفلسفة يفسرون ذلك بطرقهم المنطقية في البرهان والخطابة والجدل، وهو ضلال من وجوه قد بسطت في غير هذا الموضع، بل الحكمة هي معرفة الحق والعمل به، فالقلوب التي لها فهم وقصد تدعي بالحكمة، فيبين لها الحق علمًا وعملاً فتقبله وتعمل به‏.‏

وآخرون يعترفون بالحق لكن لهم أهواء تصدهم عن اتباعه، فهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل‏.‏ والوعظ أمر ونهي بترغيب وترهيب، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 66‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 17‏]‏، فالدعوة بهذين الطريقين لمن قبل الحق، ومن لم يقبله فإنه يجادل بالتي هي أحسن‏.‏

والقرآن مشتمل على هذا وهذا؛ ولهذا إذا جادل يسأل ويستفهم عن المقدمات البينة البرهانية التي لا يمكن أحد أن يجحدها؛ لتقرير المخاطب بالحق ولاعترافه بإنكار الباطل، كما في مثل قوله‏:‏ ‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 35‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 15‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 81‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 36 ـ 40‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 58، 59‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 133‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 51‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 197‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 8 ـ10‏]‏، إلى أمثال ذلك مما يخاطبهم باستفهام التقرير، المتضمن إقرارهم واعترافهم بالمقدمات البرهانية التي تدل على المطلوب، فهو من أحسن جدل بالبرهان؛ فإن الجدل إنما يشترط فيه أن يسلم الخصم المقدمات وإن لم تكن بَيِّنَةٌ معروفة، فإذا كانت بينة معروفة كانت برهانية‏.‏

والقرآن لا يحتج في مجادلته بمقدمة لمجرد تسليم الخصم بها، كما هي الطريقة الجدلية عند أهل المنطق وغيرهم، بل بالقضايا والمقدمات التي تسلمها الناس، وهي برهانية، وإن كان بعضهم يسلمها، وبعضهم ينازع فيها ذكر الدليل على صحتها، كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏، فإن الخطاب لما كان مع من يقر بنبوة موسى من أهل الكتاب، ومع من ينكرها من المشركين ذكر ذلك بقوله‏:‏‏}‏قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى‏}‏، وقد بين البراهين الدالة على صدق موسى في غير موضع‏.‏

وعلى قراءة من قرأ‏:‏ ‏[‏يبدونها‏]‏؛ كابن كثير وأبي عمرو جعلوا الخطاب مع المشركين وجعلوا قوله‏:‏‏{‏وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ‏}‏ احتجاجًا على المشركين بما جاء به محمد؛ فالحجة على أولئك نبوة موسى، وعلى هؤلاء نبوة محمد، ولكل منهما من البراهين ما قد بين بعضه في غير موضع‏.‏

وعلى قراءة الأكثرين بالتاء هو خطاب لأهل الكتاب، وقوله‏:‏ ‏{‏وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ‏}‏ بيان لما جاءت به الأنبياء مما أنكروه، فعلمهم الأنبياء ما لم يقبلوه ولم يعلموه، فاستدل بما عرفوه من أخبار الأنبياء، وما لم يعرفوه‏.‏

وقد قص ـ سبحانه ـ قصة موسى، وأظهر براهين موسى وآياته التي هي من أظهر البراهين والأدلة، حتي اعترف بها السحرة الذين جمعهم فرعون، وناهيك بذلك، فلما أظهر الله حق موسى، وأتي بالآيات التي علم بالاضطرار أنها من الله، وابتلعت عصاه الحبال والعصي التي أتي / بها السحرة بعد أن جاؤوا بسحر عظيم، وسحروا أعين الناس واسترهبوا الناس، ثم لما ظهر الحق وانقلبوا صاغرين قالوا‏:‏‏{‏قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 121، 122‏]‏، فقال لهم فرعون‏:‏ ‏{‏قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ‏}‏‏[‏طه‏:‏ 71، 72]‏، من الدلائل البينات اليقينية القطعية، وعلى الذي فطـرنا؛ وهـو خالقنا وربنا الذي لابـد لنا منه، لن نؤثرك على هذه الدلائل اليقينية، وعلى خالق البرية ‏{‏قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏‏[‏طه‏:‏ 72، 73‏]‏‏.‏

وقد ذكر الله هذه القصة في عدة مواضع من القرآن، يبين في كل موضع منها من الاعتبار والاستدلال نوعًا غير النوع الآخر، كما يسمي الله ورسوله وكتابه بأسماء متعددة، كل اسم يدل على معني لم يدل عليه الاسم الآخر، وليس في هذا تكرار، بل فيه تنويع الآيات، مثل‏:‏ أسماء النبي صلى الله عليه وسلم إذا قيل‏:‏ محمد، وأحمد، والحاشِرُ، والعاقب، والمقفي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة، في كل اسم دلالة على معني ليس في الاسم الآخر، وإن كانت الذات واحدة فالصفات متنوعة‏.‏

/وكذلك القرآن إذا قيل فيه‏:‏ قرآن، وفرقان، وبيان؛ وهدي، وبصائر، وشفاء، ونور، ورحمة، وروح، فكل اسم يدل على معني ليس هو المعني الآخر‏.‏

وكذلك أسماء الرب ـ تعالى ـ إذا قيل‏:‏ الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، فكل اسم يدل على معني ليس هو المعني الذي في الاسم الآخر، فالذات واحدة والصفات متعددة، فهذا في الأسماء المفردة‏.‏

وكذلك في الجمل التامة، يعبر عن القصة بجمل تدل على معان فيها، ثم يعبر عنها بجمل أخري تدل على معان أخر، وإن كانت القصة المذكورة ذاتها واحدة فصفاتها متعددة، ففي كل جملة من الجمل معني ليس في الجمل الأخر‏.‏

وليس في القرآن تكرار أصلاً، وأما ما ذكره بعض الناس من أنه كرر القصص مع إمكان الاكتفاء بالواحدة، وكان الحكمة فيه‏:‏ أن وفود العرب كانت ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقرئهم المسلمون شيئًا من القرآن، فيكون ذلك كافيا، وكان يبعث إلى القبائل / المتفرقة بالسور المختلفة، فلو لم تكن الآيات والقصص مثناة متكررة لوقعت قصة موسى إلى قوم، وقصة عيسي إلى قوم، وقصة نوح إلى قوم، فأراد الله أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض، وأن يلقيها إلى كل سمع‏.‏ فهذا كلام من لم يقدر القرآن قدره‏.‏ وأبو الفرج اقتصر على هذا الجواب في قوله‏:‏ ‏{‏مَّثَانِيَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏ لما قيل‏:‏ لم ثنيت‏؟‏ وبسط هذا له موضع آخر، فإن التثنية هي التنويع والتجنيس، وهي استيفاء الأقسام؛ ولهذا يقول من يقول من السلف‏:‏ الأقسام والأمثال‏.‏

والمقصود هنا التنبيه على أن القرآن اشتمل على أصول الدين التي تستحق هذا الاسم، وعلى البراهين والآيات والأدلة اليقينية، بخلاف ما أحدثه المبتدعون والملحدون، كما قال الرازي ـ مع خبرته بطرق هؤلاء ـ‏:‏ لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما وجدتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات‏:‏‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏، ‏[‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، واقرأ في النفي‏:‏‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏،‏{‏وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 110‏]‏، قال‏:‏ ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي‏.‏

والخير والسعادة والكمال والصلاح منحصر في نوعين‏:‏ في العلم النافع، والعمل الصالح‏.‏ وقد بعث الله محمدًا بأفضل ذلك وهو الهدي /ودين الحق، كما قال‏:‏‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 28‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏‏}‏وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 45‏]‏، فذكر النوعين‏.‏ قال الوَالِبي عن ابن عباس يقول‏:‏ أولو القوة في العبادة، قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروي عن سعيد بن جبير وعطاء الخراساني والحسن والضحاك والسدي وقتادة وأبي سنان ومبشر بن عبيد نحو ذلك‏.‏ و‏{‏وَالْأَبْصَارِ‏}‏ قال‏:‏ الأبصار‏:‏ الفقه في الدين‏.‏ وقال مجاهد‏:‏‏{‏وَالْأَبْصَارِ‏}‏ الصواب في الحكم‏.‏ وعن سعيد بن جبير قال‏:‏ البصيرة بدين الله وكتابه‏.‏ وعن عطاء الخراساني‏:‏‏{‏أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ‏}‏ قال‏:‏ أولو القوة في العبادة والبصر والعلم بأمر الله‏.‏ وعن مجاهد، وروي عن قتادة قال‏:‏ أعطوا قوة في العبادة وبصرًا في الدين‏.‏

وجميع حكماء الأمم يفضلون هذين النوعين، مثل حكماء إلىونان والهند والعرب، قال ابن قُتَيبة‏:‏ الحكمة عند العرب العلم والعمل، فالعمل الصالح هو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو الدين دين الإسلام، والعلم والهدي هو تصديق الرسول فيما أخبر به عن الله وملائكته وكتبه ورسله وإلىوم الآخر، وغير ذلك، فالعلم النافع هو الإيمان، والعمل الصالح هـو الإسـلام، العلم النافع مـن علم الله، والعمـل الصالح هـو العمل بأمـر الله، هـذا تصـديق الرسول فيما أخبر، وهذا / طاعته فيما أمر‏.‏ وضد الأول أن يقول على الله ما لا يعلم، وضد الثاني أن يشرك بالله ما لم ينزل به سلطانًا، والأول أشرف، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنًا‏{‏قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏14‏]‏، وجميع الطوائف تفضل هذين النوعين، لكن الذي جاء به الرسول هو أفضل ما فيهما، كما قال‏:‏‏{‏إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر تارة ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏ و ‏[‏قل يا أيها الكفرون‏]‏ ، ففي ‏[‏قل يا أيها الكافرون‏]‏ عبادة الله وحده وهو دين الإسلام، وفي ‏[‏قل هو الله أحد‏]‏ صفة الرحمن، وأن يقال فيه ويخبر عنه بما يستحقه وهو الإيمان، هذا هو التوحيد القولي، وذلك هو التوحيد العملي‏.‏

وكان تارة يقرأ فيهما في الأولي بقوله في البقرة‏:‏‏{‏قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 136‏]‏، وفي الثانية‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏‏.‏

/قال أبو العالية في قوله‏:‏ ‏{‏فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 92، 93‏]‏، قال‏:‏ خلتان يسئل عنهما كل أحد‏:‏ ماذا كنت تعبد‏؟‏ وماذا أجبت المرسلين‏؟‏ فالأولي تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والثانية تحقيق الشهادة بأن محمدًا رسول الله‏.‏

والصوفية بنوا أمرهم على الإرادة ولابد منها، لكن بشرط أن تكون إرادة عبادة الله وحده بما أمر‏.‏

والمتكلمون بنـوا أمـرهم على النظـر المقتضي للعلم ولابد منه، لكن بشرط أن يكون علمًا بمـا أخـبر بـه الرسول صلى الله عليه وسلم، والنـظر في الأدلـة التي دل بها الرسـول وهي آيــات الله، ولابد من هذا وهذا‏.‏

ومن طلب علمًا بلا إرادة، أو إرادة بلا علم فهو ضال، ومن طلب هذا وهذا بدون اتباع الرسول فيهما فهو ضال، بل كما قال من قال من السلف‏:‏ الدين والإيمان قول وعمل واتباع السنة‏.‏ وأهل الفقه في الأعمال الظاهرة يتكلمون في العبادات الظاهرة، وأهل التصوف والزهد يتكلمون في قصد الإنسان وإرادته، وأهل النظر والكلام وأهل العقائد من أهل الحديث وغيرهم يتكلمون في العلم والمعرفة والتصديق الذي هو أصل الإرادة، ويقولون‏:‏ العبادة لابد فيها من القصد، والقصد لا يصح إلا بعد العلم بالمقصود المعبود، وهذا صحيح،/ فلابد من معرفة المعبود وما يعبد به، فالضالون من المشركين والنصارى وأشباههم لهم عبادات وزهادات لكن لغير الله أو بغير أمر الله، وإنما القصد والإرادة النافعة هو إرادة عبادة الله وحده، وهو إنما يعبد بما شرع لا بالبدع‏.‏

وعلى هذين الأصلين يدور دين الإسلام‏:‏ على أن يعبد الله وحده، وأن يعبد بما شرع، ولا يعبد بالبدع، وأما العلم والمعرفة والتصوف فمدارها على أن يعرف ما أخبر به الرسول، ويعرف أن ما أخبر به حق؛ إما لعلمنا بأنه لا يقول إلا حقًا، وهذا تصديق عام، وإما لعلمنا بأن ذلك الخبر حق بما أظهر الله من آيات صدقه، فإنه أنزل الكتاب والميزان، وأري الناس آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتي يتبين لهم أن القرآن حق‏.‏